المادة    
إن إنكار الغيب ما اشتهر أمره، وظهر وأصبح ظاهرة عالمية إلا في العصر الحديث؛ وذلك نتيجة لأن العالم الإنساني أصبح الآن متقارباً ومتلاحماً، حتى أن أي فكرة في الشرق تصل إلى الغرب -أو العكس- في يوم واحد، أو في أسابيع، وإن أبرز سمة في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم هي: السمة المادية، فهو عالم لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يؤمن إلا بالماديات، فينكر الغيب، ولا يؤمن إلا بما يدر عليه نفعاً في هذه الدار الفانية؛ ولهذا كان لا بد لنا أن نعرج على أسباب ضلال هؤلاء القوم، ثم نرى بعد ذلك أثر الإيمان بالغيب في حياة المؤمنين، وأثر فقدان الإيمان بالغيب عند الكافرين.
فلماذا كفرت أوروبا، وكفر مفكروها بالغيب؟
وهل هم في الحقيقة كافرون بالغيب؟
أم أنهم كافرون وجاحدون بالرسل وبما جاءت به الكتب؟
ولما قلنا أنه لا يكاد يوجد إنسان يؤمن على الحقيقة بالغيب، بل يؤمن بأنه لا شيء وراء هذا المحسوس، فكيف ذلك؟
وهل كل ما يؤمن به أكثر الماديين -غلواً وعتواً- هو كل ما يشاهدوه ويروه أو يلمسوه ويدركوه بعقولهم؟ الجواب على هذا السؤال ينقلنا إلى أن نعود إلى أسباب انتشار المادية لنعرف الجواب.
  1. بداية ظهور النظرية المادية وسببها

    عندما كان الناس في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي -الذي ينبغي ويجب أن يكون هو قائد العالم -وكانت الأمة الإسلامية- التي كان يجب أن تقود العالم إلى الخير والفلاح؛ الأمة التي تؤمن بالغيب، ولديها الغيب الحقيقي- غارقة في الأوهام والخرافات، إلا ما رحم الله تبارك وتعالى؛ فكانت بعيدة التأثير على العالم الغربي. وأما العالم الغربي، فكان -في تلك اللحظة- تفيض فيه، وتعج براكين وفيضانات، من التمرد على الدين الذي كانت عليه الكنيسة، دين البابا، ودين القسيسين الغربيين النصارى عموماً، مما جاء في الأناجيل، وفي رسائل الرسل وما سوى ذلك، فثار أولئك على هذا الدين؛ لأنه خرافة، ولأنهم وجدوا أنه لا يتفق مع العلم، ومع التجربة التي وصلوا إليها، وأخذ الناس يتحولون في كل يوم ويكتشفون -في هذا الكون- أمراً جديداً يثبت لهم أن ما كانت تعتقده هيئة رجال الدين (الكنسية) باطل وضلال، وأن ما وصل إليه الإنسان بالتجربة، وبالعقل وبالحس هو الصحيح؛ وكل يوم كان يزداد ذلك؛ فأصبحوا يبتعدون قليلاً قليلاً عن عالم الغيب، في نظرهم على الأقل، إذ ليس لديهم من الغيب إلا ذلك، فلم يعرفوا الإسلام ولم يبلغوه، وإنما وصلتهم صورة مشوهة عنه. فأخذوا ينقلون إيمان الناس من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمحسوسات المجردة، وهذه هي النقطة التي نريد أن نصل إليها. كان الرجل المادي يقف ليخطب أو يتكلم ويدعو الناس فيقول: آمنوا بالحقائق ولا تؤمنوا بالخرافات. إذا سئل ما هي الحقائق، وما هي الخرافات؟ فيقول لهم: الحقائق هي هذه الأمور المشاهدة: أترون السماء، أترون الجبال، أترون الأرض أترون هذه الأشياء المادية؟ إنها حقيقة، فآمنوا بها وآمنوا بكل الماديات، وجربوا، واخترعوا، واكتسبوا، ويقول: أما الغيب فهو ما جاء عن الرب -والرب عندهم يسوع- وما جاء في الأناجيل عن اليوم الآخر، وما جاء فيها من معجزات، أخبار، كل ذلك لا تؤمنوا به ولا تصدقوه؛ لأن العقل والعلم ينفيه. فكان الناس يحتارون، إما أن يصدقوا بالخرافات الموجودة -والتي يظنون أنها هي الدين- وإما أن يتبعوا هذا، وفي كل مرة تصدق ثلة منهم وتنحاز إلى المادية، وتترك ركب الإيمان -الذي هو إيمان خرافي محرف ومبدل- ومع الزمن أصبح الناس يظنون أنه لم يعد هناك من داعٍ إلى الإيمان بالغيب مطلقاً، وأنه على الإنسان أن يؤمن بهذه الماديات المحسوسة.
  2. فشل النظرية المادية واختلاف علمائها

    لكن ما الذي جرى؟!
    يقول الله تبارك وتعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53]، أخذوا هذه المادة (قطعة حديد) فآمنوا بها؟
    لأن (الحديد) موجود ومحسوس، فآمنوا بالحديد، وصنعوا منه ما صنعوا، واخترعوا ما اخترعوا، وفعلوا ما فعلوا.
    ثم بعد ذلك يأتي السؤال المحير الذي لا بد منه، ولا بد أن يطرأ على أذهان البشر، وهو: ما هو هذا الحديد؟
    وعندما أرادوا معرفة حقائق الأشياء وكنهها، ووضعوا الحديد تحت المجاهر الكبيرة؛ لم يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك بشيء واحتاروا! فقيل لهم لماذا تحتارون؟
    ألم تكونوا تقولون: نكفر بالغيب ونؤمن بالمادة المحسوسة والمشاهدة؟
    قالوا: لا، ليست هذه هي القضية؛ إنه عندما اكتُشِفَتْ الذرة، واكتشفت المجاهر الكبيرة جداً؛ أصبحنا لا نرى حديدة، بل أصبحنا نرى فراغات هائلة تشبه الفراغات التي بين أفراد المجموعة الشمسية: الأرض، والكواكب الأخرى حول الشمس، هذه هي المادة وهذه هي الحديدة؛ فإذاً ما هي المادة؟
    قالوا: لا نستطيع أن نقول لكم شيئاً. فيقال لهم: كنتم تطالبوننا أن نكفر بالإنجيل، ونؤمن بالمادة فما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع معرفة ذلك.
    فاختلفوا في ذلك إلى الآن، وكلما تقدموا في العلم فإنهم يجهلون ما هي المادة؟
    ما هي حقيقتها؟!
    وعندما يقال لهم: أنتم إذاً تؤمنون بالغيب؟
    يقولون: نحن لا نؤمن بالغيب كيف ذلك؟
    لأن الغيب عندهم هو تلك الخرافات التي لا يريدون أن يؤمنوا بها، سواء عرفوا هذه الحديدة أم لم يعرفوها.
    لكن هذا الغيب الجديد، وإن صح التعبير (الغيب العلمي) كما يسمونه أحياناً، فهم يؤمنون به ولم يروه، ويقولون لا نستطيع أن نراه، إنما هو أمر غيبي.
    فالكهرباء -مثلاً- قالوا: إنها من عالم الغيب، فإذا قيل لهم: أنتم هل تؤمنون بالغيب؟
    قالوا: لا نؤمن بالغيب، لكننا في الحقيقة لا ندري ما هي الكهرباء؟
    إننا ندرك آثارها ونستخدمها في كل بيت وفي كل شأن تقريباً؛ لكننا لا ندري ما حقيقتها!!
    وقس على ذلك كثيراً من الأمور كالجاذبية، فما هي الجاذبية؟
    لا يدرون! مع أنهم يعرفون قانون الجاذبية؛ ولكن ما هي الجاذبية على الحقيقة؟
    يقولون: لا ندري.
    إذاً: ماذا استفاد الإنسان!! فقد صعد إلى السماء فتاه في هذا الفضاء بين الأجرام، حتى إنه لم يعد يدري عن شيء، ودخل إلى أعماق الذرة الصغيرة فتاه في أعماقها، وقال: إن الفراغات التي توجد بين الهواء وبين ما يدور حولها تشبه الفراغات التي بين الكواكب. إذاً فأين يعيش الإنسان؟ وكأن حصيلة هذا الجهد الإنساني، وحصيلة هذا العلم لاشيء..!
    وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة، فالإنسان بغير الإيمان بالله عز وجل وبغير الإيمان بالغيب صفرٌ فارغٌ لا حقيقة له، ولا يستطيع أن يؤمن بأي شيء، فلم يعد هناك في الغرب -بين العلماء الغربيين- اتفاق على شيء، إلا على شيء واحد، إن اتفقوا عليه وهو: أنه لا يصح لك أن تصدر أحكاماً مطلقة، سواء كنت عالم فيزياء أم كيمياء أم أحياء أم في علم الاجتماع أم في علم النفس، فلا تصدر أحكاماً مطلقة وتقول الحق كذا، إذاً فمعنى ذلك: أن الإنسان لم يعلم شيئاً أبداً، فجهد وتعلم، وإذا به يجد أنه لا يرى ذلك الذي تعلمه على الأرض.